قصّة مارادونا والهدف باليد: أسطورة كرويّة خالدة

مارادونا والهدف باليد

تُعدّ كرة القدم واحدة من أكثر الرياضات شعبيةً في العالم، ولا تُذكر هذه اللعبة إلا وتأتي معها قصص وأحداث خالدة صنعت تاريخًا لا يُنسى. ومن بين أبرز تلك القصص على الإطلاق، قصّة النجم الأرجنتيني الراحل دييغو أرماندو مارادونا، وخاصّةً هدفه الشهير المعروف باسم “الهدف باليد” أو “يد الله” (Hand of God) الذي سجّله في مرمى منتخب إنجلترا خلال منافسات كأس العالم 1986 في المكسيك. لا شكّ في أنّ هذا الهدف تحوّل إلى نقطة نقاش دائمة في عالم كرة القدم، سواء من حيث الجدل التحكيمي أو قيمته الرمزية في تاريخ اللعبة. في هذا المقال سوف نتناول أبرز محطّات قصّة مارادونا والهدف باليد، وكيف أثّرت في مسيرة النجم الأرجنتيني ومكانته كأحد عظماء كرة القدم على الإطلاق.


1. خلفية تاريخية عن مارادونا

وُلد دييغو أرماندو مارادونا في 30 أكتوبر 1960 في لانوس، إحدى ضواحي العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس. نشأ في عائلة بسيطة، ومع ذلك ظهرت موهبته الكروية منذ الصغر بشكل لافت، إذ بدأ مسيرته في نادي أرجنتينوس جونيورز قبل أن ينتقل إلى بوكا جونيورز، وهو النادي الذي شهد بزوغ نجمه الحقيقي. وقد خطف مارادونا أنظار العالم بفضل مهاراته الفردية الخارقة، وقدرته على المراوغة بشكل فريد، وتمريراته الحاسمة، فضلًا عن قوّته الذهنية وشخصيته القويّة على أرض الملعب.

في بداية الثمانينيات، انتقل مارادونا إلى أوروبا للعب بقميص نادي برشلونة الإسباني، ثم لاحقًا إلى نابولي الإيطالي حيث صنع تاريخًا فريدًا وقاد النادي لتحقيق بطولات غير مسبوقة. رغم أن تألّقه مع نابولي كان لافتًا، إلا أنّ منافسات كأس العالم 1986 هي التي رسّخت اسمه في سجلّ الأساطير الخالدة.


2. كأس العالم 1986: محطّة تاريخيّة

استضافت المكسيك كأس العالم للمرة الثانية في تاريخها عام 1986، بعد نسخة 1970. دخل منتخب الأرجنتين هذه النسخة وعينه على استعادة الأمجاد التي كان قد حقّقها في مونديال 1978 عندما توّج باللقب الأوّل في تاريخه. ومع امتلاك الأرجنتين لاعبًا من طراز مارادونا، ساد التفاؤل أجواء المنتخب الأرجنتيني وجماهيره، لأنّ الجميع كانوا يعوّلون على موهبة دييغو الفذّة لتحقيق المجد المونديالي.

أوقعت قرعة المونديال الأرجنتين في مجموعة ضمّت منتخبات إيطاليا، بلغاريا، وكوريا الجنوبية. وقد نجح المنتخب الأرجنتيني في تجاوز الدور الأوّل، ثم تقدّم نحو الأدوار الإقصائية ليواجه في ربع النهائي منتخب إنجلترا في مباراةٍ اكتسبت أبعادًا تاريخيّة وسياسيّة وجماهيرية، سواء بسبب التنافس التقليدي أو خلفية الصراع العسكري سابقًا بين البلدين حول جزر فوكلاند (مالفيناس).


3. مباراة الأرجنتين وإنجلترا: أجواء مشتعلة

أُقيمت مباراة ربع النهائي بين الأرجنتين وإنجلترا يوم 22 يونيو 1986 على أرضية ملعب أزتيكا في مكسيكو سيتي، الذي استضاف عددًا من أهم مباريات كأس العالم على مرّ التاريخ. كانت الأجواء مشحونة للغاية، حيث مثّلت هذه المباراة، بالنسبة للأرجنتينيين، فرصةً لإثبات تفوّقهم الكروي وردّ الاعتبار عقب أحداث حرب فوكلاند. وعليه، جاء اللقاء مليئًا بالحماس والترقّب.

في هذا السياق المشحون، قاد دييغو مارادونا هجوم منتخب بلاده، وواجه دفاعًا إنجليزيًا عنيدًا بقيادة تيري بوشر. وعلى الرّغم من الندية الكبيرة التي شهدتها الدقائق الأولى، فقد كانت لمارادونا الكلمة الفصل في تغيير مجرى المباراة عبر تسجيل هدفين تاريخيين، أحدهما بات يُعرف باسم “الهدف باليد”.


4. مارادونا والهدف باليد: اللحظة التي صنعت الجدل

جاء الهدف الأول لمارادونا في الدقيقة 51 من زمن الشوط الثاني، عندما ضغط على دفاع إنجلترا وحاولت الكرة الارتداد داخل منطقة الجزاء الإنجليزيّة. في تلك اللحظة، قفز مارادونا إلى الكرة بالتزامن مع الحارس الإنجليزي بيتر شيلتون، ليلمسها بيده إلى داخل الشباك وسط دهشة الجميع. تردّد الحكم التونسي علي بن ناصر للحظات، ثم احتسب الهدف بعدما أشار مساعده بصحّة الكرة، وسط احتجاج لاعبي المنتخب الإنجليزي الذين رأوا بوضوح تدخّل مارادونا بيده.


5. الهدف الثاني: الإبداع الاستثنائي

على الرغم من أنّ الهدف الأوّل أثار جدلًا واسعًا، فإنّ مارادونا عوّض ما حصل عبر تسجيل الهدف الثاني الذي اعتبره كثيرون أفضل هدف في تاريخ كأس العالم. فقط بعد أربع دقائق من الهدف باليد، تلقّى مارادونا الكرة من منتصف الملعب تقريبًا، وبدأ سلسلة من المراوغات الخرافية تجاوز فيها خمسة لاعبين من منتخب إنجلترا بطريقة غير مسبوقة. وعندما واجه الحارس بيتر شيلتون، راوغه وسدد الكرة إلى المرمى الخالي، محققًا أحد أجمل الأهداف التي رآها عشاق كرة القدم.

هذا الهدف الثاني كان بمثابة ردّ كروي ساحر على كل التشكيكات. فقد أيقن الجميع أنّ مارادونا، بعيدًا عن الجدل المتعلّق بلمسة اليد، يمتلك مهارات خارقة تجعله لاعبًا استثنائيًا لا مثيل له. لُقّب ذلك الهدف فيما بعد بـ**”هدف القرن”** نظرًا لروعته ولقيمته في صناعة أمجاد مارادونا.


6. تداعيات الهدف باليد في تاريخ كرة القدم

أ. تأكيد مكانة مارادونا كأسطورة

كان كأس العالم 1986 فرصة حقيقيّة أمام مارادونا لإثبات موهبته العالمية، وقد نجح بامتياز. رغم اللغط الذي صاحب الهدف الأول، فقد أثبت الهدف الثاني أنّه يمتلك قدرة فنية وبدنية رائعة. كما قاد الأرجنتين للفوز بالمباراة بنتيجة 2-1 والتأهل لنصف النهائي، وصولًا إلى المباراة النهائية التي فازت فيها الأرجنتين على ألمانيا الغربية بنتيجة 3-2، لتحرز بذلك لقبها الثاني في تاريخ المونديال.

ب. إثارة الجدل حول التحكيم والتقنية

بقي هدف مارادونا باليد مؤشرًا واضحًا على الحاجة إلى تحسين تكنولوجيا التحكيم في كرة القدم. فقد تراوحت ردود الأفعال ما بين اتهامات طالت الحكم والمساعد، ورؤية أخرى دعت إلى أهمية تطوير تقنيات تساعد الحكام على اتخاذ القرار الصحيح، وهو ما نراه اليوم في تقنيات حكم الفيديو المساعد (VAR) وغيرها.

ج. تأثيره على العلاقة بين إنجلترا والأرجنتين

لم تكن هذه المباراة مجرد لقاء كروي، بل حملت أبعادًا سياسيّة واجتماعيّة مرتبطة بحرب فوكلاند عام 1982. بالنسبة للأرجنتينيين، كان الفوز على إنجلترا يمثّل انتصارًا معنويًا يتجاوز حدود المستطيل الأخضر. وبالتالي، ازداد الزخم حول هدف مارادونا باليد الذي رأى فيه بعض الأرجنتينيين تأكيدًا على التفوّق أمام عدوّهم السابق في ساحات أخرى.


7. شهرة “يد ” في وسائل الإعلام

لم يقتصر صدى هذا الهدف على أرجاء الملعب في تلك اللحظات، بل امتد ليشمل وسائل الإعلام العالمية التي خصّصت عناوينها وصحفها للحديث عن “يد ” و”مارادونا الساحر”. كما استمرّت التحليلات لفترة طويلة في محاولة فهم الأسباب التي جعلت الحكم يغضّ الطرف عن هذه المخالفة الواضحة، وهل يرجع ذلك للظروف المحيطة بالمباراة أم لضغط الجماهير أم فقط لأنّ الحكم لم يتمكن من رؤية اللمسة بشكلٍ واضح.

وقد استُخدم هذا الهدف كمادة إعلامية جذابة لما يحمله من إثارة، وأخذت الصحف تنشر مقالاتٍ حول شخصية مارادونا، وعن الفارق بين البراعة الكروية والروح الرياضية. ورغم كل ما أُثير من جدل، ظلّت تلك اللقطة أحد أكثر المشاهد الخالدة في تاريخ البطولات العالمية.


8. انعكاسات الهدف باليد على إرث مارادونا

على الرغم من أنّ الهدف باليد اعتُبر من أكثر الأهداف جدلًا في تاريخ اللعبة، فقد ساهم في بناء أسطورة مارادونا، إذ رسّخ فكرة أنّ هذا اللاعب لا يعترف بالمستحيل. يرى بعض المشجعين أنّ مارادونا ارتكب خطأ من الناحية الأخلاقية، فيما يرى آخرون أنّ كرة القدم لا تخلو من الحيل والدهاء، وأنّ “الهدف باليد” يعدّ جزءًا من عبقريته وروحه المرحة.

مهما اختلفت الآراء، يبقى مارادونا أحد اللاعبين القلائل الذين حفروا أسماءهم بأحرف من ذهب في تاريخ اللعبة، مستندين على إنجازات كبرى وانتصارات عظيمة. وقد توفي مارادونا يوم 25 نوفمبر 2020، لكن سيرته وإنجازاته وذكرياته ستبقى حيّة في قلوب الملايين من عشاق كرة القدم حول العالم.


9. الخلاصة: كيف غيّر مارادونا مفهوم الأسطورة الكروية؟

لا يمكن اختزال مسيرة دييغو أرماندو مارادونا في “الهدف باليد” فقط، فالرجل قدّم على مدار سنواتٍ طويلة لوحة فنيّة رائعة في ملاعب الأرجنتين وأوروبا، وحقق ألقابًا تاريخية مع نابولي والمنتخب الأرجنتيني. لكن تبقى مباراة إنجلترا في ربع نهائي كأس العالم 1986 إحدى أهم المحطّات المحفورة في الذاكرة الشعبية، فقد أظهرت للعالم وجهًا مضيئًا من فنّ مارادونا (الهدف الثاني) ووجهًا آخر يثير الجدل (الهدف باليد).

إنّ الجمع بين هدفٍ غير شرعي وآخر يُصنّف ضمن الأروع في التاريخ عكس الحالة الفريدة لمارادونا، التي تجمع بين الموهبة الجامحة، والجرأة في اتخاذ القرار، والشخصية الثائرة على القواعد والحدود. وهذه هي روح مارادونا التي عشقها الملايين وبقيت محفورة في ذاكرة كرة القدم إلى الأبد.

اليوم، ومع تطوّر تقنيات التحكيم، ربما ما كان هدف “يد ” ليُحتسب لو أُعيدت الكرة في عصر الـVAR، إلا أنّه بلا شك كان له وقعٌ هائل في زمانه، وأدّى دورًا مهمًا في تتويج الأرجنتين في مونديال 1986، وفي كتابة فصل استثنائي في سجلّ الأساطير الكروية. وعندما يُذكر اسم مارادونا لا بدّ من ذكر “الهدف باليد”، لأنّه يعكس جانبًا مهمًا من شخصيته الفريدة: الإصرار، التحدّي، والعبقرية التي تخرج عن المألوف.

هكذا تتجلى قصّة مارادونا والهدف باليد، قصة اعتُبرت في نظر الكثيرين رمزًا للإبداع الكروي وأيضًا للجدل الرياضي، وحكاية يجمع من خلالها محبّو كرة القدم على أنّها من أكثر اللحظات إثارةً في التاريخ. وبينما قد يختلف البعض في تقييم تلك اللقطة، أو استحضار أخلاقيات الفوز والخسارة، يبقى ما قدّمه مارادونا على مستوى الأداء الاستثنائي في تلك المباراة كفيلًا بجعله أيقونةً تجاوزت حدود بلاده إلى العالمية.

رابط خارجي موثوق: للاطّلاع على مزيد من التفاصيل حول كأس العالم 1986 وأحداثه المثيرة، يُمكن زيارة الموقع الرسمي للاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) عبر الرابط التالي:
https://www.fifa.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top